اليوم يوم يختلف عن باقي الأيام، هذه المقالة ليست كباقي المقالات بل وأنني لا أصنفها كمقالة من الأساس، دعوني أصنفها علي أنها جزء مني لم أقدر علي البوح به لأي فرد وجهاً لوجه.
لن اتحث عن أسطورة قابعة في الهند، ولا عن قاتل يأكل لحم ضحاياه كما فعل كارل غروسمان، ولا عن فراعنة ولا عن الميثولوجيا الإسكندنافية، سأتحدث عن أسطورة في عائلتي، إمرأة إهتز لها الزمان، تضامن معها القدر، حزنت الشمس علي فراقها وخبا ضوء القمر كأنه يعلن حالة الحداد.
*فكرية سليمان:
ربما لن يهم البعض حديثي عن جدتي لكن من كان لهم شخص مثلها سيتفهم تماماً ما سأقول وسيتفهم لما أريد معاناة كتابة شئ ما عنها
إمرأة كانت صلبة كالجبال سلسة كموج البحر، لديها 7 أبناء وحوالي الأربعين حفيداً، كان شغلها الشاغل هو تربية أبناءها وأحفادها تربية حسنة وكانت تسعي دوماً لتجمعهم تحت جناحها .
وقد جاء يوم غابت الشمس فيه يوماً مغبراً أصبح فيه الهواء ثقيلا تكاد لا تتنفسه وإذا تنفسته ضاق صدرك من ثقله ، إنه اليوم التي صارت فيه هذه المرأة جثة هامدة.
الثامنة مساءاً يوم الأحد من أيام هذه السنة زاد مرضها فقد ضاقت زرعاً منه وقتها كانت مستريحة في غرفتها تحاول التصدي بأقصي قوتها لهذا المرض تتحدي ألامه وتصرخ في وجهه ولسان حالها يقول مت بغيظك أيها اللعين لكنها لم تكن تعرف أن القدر خبأ لها شيئاً أخر.
كنا في هذا اليوم ننتظر و جبة الغداء التي طال وقت إنتظارها في هذا اليوم بالذات وكنا علي وشك البدء حين نادت جدتي بصوت خفيف لتطلب القليل من القهوة وكان أحد أبناءها معه فنجان قهوة خاص به فقال هي لاتحب القهوة من الأساس سأعطيها رشفة من فنجاني ، سارع إليها ثم لحظات وأصدر صوت نداء بسيط، مسموع لكنه غريب ذهبت إحدي بناتها لتجيب نداء أخيها لكنها كادت أن تسقط أرضاً فجاءنا نداءاً أخر من الغرفة لكن هذه المرة أصبح النداء مخيف مرعب وبه حشرجة لم نعتادها كان نداءاً جافاً يثير الهلع في النفوس، إعتدلت إبنتها من سقطتها وأجابت علي اخوها فقالت" اصبر فقد كدت أن اقع" دخلت الغرفة وماهي إلا ثوان وفتحت الباب بجملة لن يناسها أي أحد منا، جملة أسقطت لقيمات الطعام من أيدينا، لطمت لطمة علي خدها الأيمن قائلة "توفت والدتكم" جملة أصمت الأذان وأوقفت الهواء في أنوفنا و الطعام في الحلق، جملة أوقفت الساعة وساد صمت لعدة ثواني كانت ثقيلة كثقل الجبال علي الصدر، صمت أشبه بالضوضاء، كأننا كنا نسمع أفكار بعضنا البعض، علي الرغم من السكون التام
لكننا سرعان ما تحادفنا الي غرفتها لمعرفة ما يجري هناك قررنا قياس نبضاتها فوجدناها 33 ، كان الأمل يدق في عيوننا وحسبناها مجرد غيبوبة لكنها لم تكن كذلك حاولنا كثيراً الأتصال بأي طبيب لتأكيد الخبر أو نفيه ، أخذ منا ايجاد طبيب حوالي النصف ساعة ، كانت دقائق من الجحيم في إنتظار الشخص الذي سيحيل حياتنا إلي جنة بقوله أنها كانت مجرد غيبوبة
جاء الطبيب ودخل غرفتها بسرعة وبنفس السرعة خرج متمتماً" البقاء الله"، ساد الصمت مرة أخري وعلت ضوضاء الأفكار ولسان حالنا يقول أن هذا الطبيب يهذي وأنها مجرد غيبوبة، ومنا من قال في باله أنها تمزح معنا، كل هذا كان بداخل عقولنا، كنا واقفين أمام غرفتها صامتين تعلو فقط أصوات دقات القلوب، ثوان آتية من النار إشتعلت في قلوبنا حتي بدأنا بالإنهيار ، تداعينا واحداً تلو الأخر ساد ظلام، ليس كأي ظلام إ إنما هو ظلام الموت الذي خيم علينا وأخذ منا غاليتنا ولكن كان لابد من الإنتظار حتي يتم الغسل والدفن .
الأن ونحن جميعا في منزل به جثة ويجب الإنتظار حتي الصباح ، نعم أعلم أنها منا ونحن منها لكنها جثة الأن
أتي باقي أحفادها دخل عليها البعض منهم غير مصدق لما حدث والبعض قبل جبهتها وهناك من حاول فتح عينيها لمراقبتهما، يقينا منهم أنها قد تدب فيهما الحياة مرة أخري، هناك من تمالك نفسه ونام بجوارها وهناك من كان يقرأ القرآن بجانبها وخارج غرفتها من كانوا منهارين من البكاء ، فجميعنا كادت أن تنخلع قلوبنا من مكانها .
حاولنا تبريد الغرفة قدر الإمكان حتي الصباح مستخدمين أواني كبيرة بها تلج وأشعلنا البخور حتي لا تخرج أي رائحة في هذا الصيف الذي أحرقت حرارته جلودنا ونحن أحياء فما بالكم بجثة.
كل هذه الأحداث كانت في أقل من ساعة وإلي أن أتي الصباح نحن كنا جميعا مازلنا معاً وجثتها مازالت في الغرفة ، جاء الفجر ولم ينم أي منا، وفي عقولنا وساوس أن روحها في المكان مازالت تطوف بيننا وتسمعنا، كنا ننظر في الغرف المظلمة قائلين لأنفسنا أننا نراها هناك، أنها في هذه الزاوية، ستأتي في أحلامنا سنري الكوابيس، بل الأسوأ من ذلك أن نري الموت ونحن مستيقظين.
"هل لك أن تتخيل أنك متواجد بجانب جثة بإرادتك لكنك مرغم علي ذلك في نفس الوقت ، ومطلوب منك أن تنام!! ، جسدك يتداعي وعقلك يغلق نظامه قبل عينيك ، تحاول مقاومة هذا الشعور، تشرب الكثير من القهوة لتجعلك مستيقظاً ولا يمر الوقت أبداً، شعور صعب خصوصاً مع الهواجس المصاحبة لهذا الموقف "
عدت الساعات ومر الوقت كمرور السلحفاة، وقد جاء وقت الغسل، أخلينا المكان وجهزناه لإستقبال جسدها القاتم علي طاولة الغسل ، لا لم اقدر علي التواجد حينها، فأنا أضعف من أن أري شئ كهذا، كيف لي أن أتواجد مع جثة خاوية من الروح، بهتت عينها، خرجت منهما الحياة، فمابالك بملامسة هذه الجثة وإسنادها أثناء الغسل، إنه لموقف مهيب لا يقدر عليه ضعيف القلب مثلي، موقف تتداعي له الجبال فمابالكم بإنسان تنهار أعصابه بلا إرادة.
تم الغسل والتكفين وجاء الوقت، كنا قرب صلاة الظهر وذهبنا جميعاً لأداء صلاة الجنازة وبعدها إلي المقابر لدفنها
هنا صحت أدمغتنا من غفوتها التي طالت منذ أن توفت الغالية، صحت من التساؤلات غير المفهومة ،من إنكارها للأحداث وكان هناك عدة أسئلة تشغل بال الجميع، هل حقاً جاء الوقت لنتخلص من هذه المرأة؟ هل هي جدتنا التي كنا نعهدها، هل هي من كانت تلقي النكات؟ هل سيتم وضعها في التراب ونكمل حياتنا كأن شيئاً لم يكن؟، مازلنا نسمع صوتها في آذاننا ونحن خلف نعشها في المقابرمع انهيار الكثير منا.
دفناها وإبتعدنا عائدين للمنزل، منزلها التي عانت لبناءه بدون طلب مساعدة من أحد، جلسنا جميعاً بجانب بعضنا في محاولة منا لتحقيق رغبتها لجمع عائلتها معاً ولأول مرة بدون أن يعتذر أحد عن الحضور، كان الأكل والشرب حينها ترف لم نقدر علي عمله، كنا محطمين نفسياً ومعنوياً وجسدياً،
كنت أخاف فتح غرفتها ليس لأنني سأري شبحاً بل لهيبة الموت التي كانت تحيط بالمكان وربما أيضا لخوفي فعلاً من وجودها بالغرفة بعد الوفاة، إنتهي عزاء الثلاث أيام وانتهت أسطورة فكرية سليمان.
* ساعة القدر:
ربما لم أحكي بعد كيف صار يوم الوفاة من البداية!! حسناً قبل وفاتها بأشهر كانت حالتها تتدهور بالمرض وصولا إلي إسبوع قبل الوفاة ساءت حالتها كثيراً وظهرت عدة أمراض قاتلة مع بعضها داخل جسد المسكينة ، ويوم وفاتها كان لابد من ذهابها للطبيب لأجراء بعض الفحوصات المصيرية، لم تبد أي شعور بالإهتمام للذهاب، كانت متمسكة بوجودها في المنزل حتي أنها امسكت بحلية الباب بقوة كاشفة عن شعورها بعدم رغبتها في الذهاب ومزحت مع أحد أحفادها قائلة " إذهب أنت مكاني" فرد مازحاً " أنتي هي المريضة يا جدتي ليس أنا" أطلقت ضحكات خافتة مع إبتسامة ملائكية وذهبت، لعلك تسأل الأن وماهي سخرية القدر في هذا؟ بعد خروجها من المنزل برفقة أبناءها لإجراء الفحوصات هذا ما حدث.
المركز المقصود للفحوصات كان الطبيب المسؤل فيه قد صار معه حادث سيارة، وحينما ذهبوا إلي مركز أخر لا يغلق أبوابه أبداً، وجدوا أن المركز مغلق ليوم الثلاثاء وحين حاولوا الإتصال بأوبر لم يتلق أي أحد الطلب لعدة مرات، وحينما فكروا في العثور علي سيارة أجرة لم يجدوا واحدة مارة من نفس الشارع، وتأخر الوقت حتي عثروا علي سيارة وعادت للمنزل أخيراً وتوفت.
هل تستوعب معي أن المركز أغلق قبل وفاتها بيوم وفتحه بعد وفاتها بيوم لا ليس نحساً إنما هو القدر الذي كان يحاول أن يُنبأنا بعلامات الوفاة لكننا لم نراها.
رحمها الله وأسكنها فسيح جناته، أسئلكم الفاتحة
كتابة: سينا
عظم الله اجرك ورحم الله تعالى جدتك رحمة واسعة
ردحذفملاحظة فقط: انه لا يجوز قول سخرية القدر فهو منكر من القول ياريت تعدليه ودمتي بصحة وعافية
السلام عليكم
ردحذفالله يرحمها ويسكنها فسيح جناته
البقاء في حياتك...
عدنان اليمن: رحمه الله عليها وجعل الله قبرها رياض من رياض الجنة.
ردحذفاختي يريت تستبدلي سخريه القدر بي ساعة القدر
اولا شكرا جزيلا لقراءتكم الموضوع فقد كان فضفضة لما بداخل صدري من حرقة علي فراق جدتي
ردحذفثانيا رما قد خانني التعبير في كلمة سخرية القدر وقد تم تعديلها
واتمني ان تقولوا اذا كان هناك اي تعليق اخر او اي تعديل في اي مقال، وسأنظر في الامر بسعة صدر
ممتاز اختي
ردحذفاهلا وسهلا ياسمينا انا كنت ناوي أعيط لكن لما شفت رثاء الجدة العزيزة بطلت العياط رحمها الله واسكنها فسيح جناته بتفكريني بأحب الناس الى قلوب الطوارق رحمهم الله جميعا
ردحذفالبقاء والدوام لله وحده ربنا يرحمها ويجعل قبرها روضه من رياض الجنة ونعيمها اللهم امين يارب العالمين
ردحذفونعم بالله، اللهم أمين يارب العالمين، شكرا لتعليقك
ردحذف